فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

{أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى (6)}
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث (11)}

.شرح المفردات:

{ضالا فهدى}: أي غافلا عن الشرائع فهداك إلى مناهجها، {عائلا}: أي فقيرا، {فلا تقهر}: أي فلا تستذل، {فلا تنهر}: أي فلا تزجر، {فحدث}: أي فأدّ الشكر لموليها.

.المعنى الجملي:

بعد أن ذكر رضاه عن رسوله، ووعده له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه، ويثلج قلبه- أردف ذلك بيان أن هذا ليس عجبا منه جل شأنه، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولا فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته، ثم نهاه عن أمرين: قهر اليتيم وزجر السائل، لما لهما من أكبر الأثر في التعاطف والتعاون في المجتمع، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوى الحاجة، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها في موضعها وأداء حقها.

.الإيضاح:

{أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى} أي ألم تكن يتيما لا أب لك يعنى بتربيتك، ويقوم بشئونك، ويهتم بتنشئتك فما زال يحميك ويتعهدك برعايته، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنسانى.
وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم يتيما، إذ توفى أبوه وهو في بطن أمه، فلما ولد عطف اللّه عليه قلب جده عبد المطلب، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفى والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ في سن الثامنة، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، فكان به حفيّا، شديد العناية بأمره، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع، حتى أرسله اللّه رسولا، فقام يؤازره وينصره، ويدفع عنه أذى قريش حتى مات، فاستطاعت قريش أن تنال منه، وتجرّأ عليه سفهاؤهم، وسلطوا عليه غلمانهم، حتى اضطروه إلى الهجرة.
ولو تدبر المنصف في رعاية اللّه له، وحياطته بحفظه وحسن تنشئته، لوجد من ذلك العجب، فلقد كان اليتيم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق، لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه، وكان في خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية في إضلاله لو أنه سار سيرتهم، لكن عناية اللّه كانت ترعاه، وتمنعه السير على نهجهم، فكان الوفىّ الذي لا يمين، والأمين الذي لا يخون، والصّادق الذي لا يكذب، والطاهر الذي لم يدنّس برجس الجاهلية.
{وَوَجَدَكَ ضالا فهدى} أي ووجدك حائرا مضطربا في أمرك، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم، فعبادتهم باطلة، ومعتقداتهم فاسدة، وكان يفكر في دين اليهودية، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه، إذ بدلوا دينهم، وخالفوا ما كان عليه رسولهم، فيبدو عليه الإعراض عنه، ثم يفكر في دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود، فيرجع عن التفكير فيه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع.
وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه في العرب أنفسهم من سخف في العقائد، وضعف في البصائر، باستيلاء الأوهام عليهم وفساد أعمالهم، وشؤمها في أحوالهم، بتفرق الكلمة، وتفانيهم في سفك الدماء، والإشراف على الهلاك باستبعاد الغرباء لهم وتحكمهم فيهم فالحبشة والفرس من جانب، والرومان من جانب آخر.
فما العمل في تقويم عقائدهم، وتخليصهم من تحكم العادات فيهم؟ وأىّ الطرق ينبغى أن يسلك في إيقاظهم من سباتهم؟
وقصارى ذلك، إنه كان في قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليسنت خيرا من حالهم لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه، بل أنزل عليه الوحى ببين له أوضح السبل كما قال: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ}.
{وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} أي إنك كنت فقيرا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناك بما أجراه لك من الريح في التجارة، وبما وهبته لك خديجة من مالها.
وخلاصة ما تقدم- إن من آواك في يتمك، وهداك من ضلالك، وأغناك من فقرك، لا يتركك في مستقبل أمرك.
وبعد أن بين نعمه السابقة طالبه بشكر هذه النعم وأداء حقها فقال: {فَأَمَّا اليتيم فَلا تقهر} أي لا تقهر اليتيم ولا تستذله، بل ارفع نفسه بالأدب، وهذّبه بمكارم الأخلاق، ليكون عضوا نافعا في جماعتك، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك.
ومن ذاق مرارة الضيق في نفسه، فما أجدره أن يستشعرها في غيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتيما، فباعد اللّه عنه ذل اليتيم فآواه، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرا للّه على نعمته.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تنهر} أي وأما المستجدى فلا تزجره، ولكن تفضل عليه بشيء أو ردّه ردّا جميلا، وقد يكون المراد من {السَّائِلَ} المسترشد وهو أيضا يطلب الرفق به وبيان ما أشكل عليه من الأمر.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث} أي أوسع في البذل على الفُقراء بمالك، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها، وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة في حديثها، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق في شيء.
وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل، ولا تجدهم إلا شاكين من القلّ أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل مما آتاهم اللّه من فضله، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه وقد استفاضت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الإنفاق على الفُقراء، عظيم الرأفة بهم، واسع الإحسان إليهم، وكان يتصدق بكل ما يدخل في ملكه ويبيت طاويا.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الذي أوحيت إليه وأرضيته، وشرحت صدره، واجعلنا من الذين يقتفون آثاره، ويتبعون سنته.

.مقاصد السورة الكريمة:

اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد:
(1) أن اللّه ما قلا رسوله ولا تركه.
(2) وعد رسوله بأنه سيكون في مستأنف أمره خيرا من ماضيه.
(3) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.
(4) طلب الشكر منه على هذه النعم. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضالا فهدى وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} هذا من بعض ما أعطى اللّه النبي، فيما مضى، ولسوف يعطيه أكثر وأكثر فيما يستقبل من الحياة.. فإذا نظر النبي إلى نفسه، من مولده إلى يومه هذا الذي لقيته فيه تلك الآيات- وجد أنه ولد يتيما، فكفله اللّه، وأنزله من جده عبد المطلب، وعمه أبى طالب، منزلة أعز الأبناء وأحبهم إلى آبائهم.. ثم إذا نظر مرة ثانية إلى شبابه، وجد أنه كان قلق النفس، منزعج الضمير، مما كان يرى من الحياة الضالة التي يعيش فيها قومه، ولم يكن يدرى كيف يجد لنفسه سكنا، ولقلبه اطمئنانا وسط هذا الجوّ الخانق، فهداه اللّه إلى الخلوة إلى نفسه في غار حراء، والابتعاد عن قومه، والانقطاع إلى ربه متحنّثا متعبدا، متأملا متفكرا.. وقد ظل هذا شأنه إلى أن جاءه وحي السماء، فسكب السكينة في قلبه، والطمأنينة في نفسه.. إنه صلوات اللّه وسلامه عليه، كان يرى أن ما عليه قومه ليس مما يدين به عاقل، أو تستقيم به حياة العقلاء، ولم يكن يدرى- صلوات اللّه وسلامه عليه- كيف يغير من مسيرتهم الضالة، ولا كيف يقيم هو نفسه هو على شريعة يبشّر بها في الناس، كما يقول سبحانه: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ..} (52: الشورى) ثم إذا أعاد النبي النظر إلى نفسه مرة ثالثة، وجد أنه كان فقيرا عائلا، أي كثير العيال، فأغناه اللّه، وسدّ حاجة عياله، من مال زوجه، وأم أبنائه، السيدة خديجة رضى اللّه عنها.. وفى هذا ما يشير إلى فضل السيدة خديجة، وإلى أنها نعمة من نعم اللّه على النبي.. هذا كله يراه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- من نفسه، ماضيا، وحاضرا..
قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلا تقهر وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تنهر وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث}..
هو تعقيب على هذا الإحسان الذي أفاضه اللّه وما سيفيضه على نبيه، وأن من حق هذا الإحسان أن يقابل بالحمد والشكران للّه رب العالمين.. وقد صرف اللّه سبحانه وتعالى هذا الحمد، وذلك الشكران إلى الضعفاء، والمحتاجين من عباده، فيكون حمده وشكره، بالإحسان إليهم، والرعاية لهم.. فلا نهر لليتيم، ولا كسر لخاطره، ولا ترك لمرارة اليتم تنعقد في فمه.. وإن أولى الناس برعاية اليتيم، وجبر خاطره، من عرف اليتم، ثم كفله اللّه.. وإنه لا نهر أي لا زجر للسائل، وهو من يقف موقف من يسأل، عما هو محتاج إليه، من طعام يسد به جوعه، أو علم يغذى به عقله، أو هدى يعرف به طريق الخلاص لروحه.. فإن السائل ضعيف أمام المسئول، ومن حقه على القوى أن يتلطف معه، ويرفق به.. إنه أشبه بالضالّ الذي لا يعرف الطريق، والمسئول هو موضع أمله، ومعقد رجائه، في أن يخرجه من هذا الضلال، وأن يقيمه على الطريق المستقيم..
وأولى الناس بهذا من عرف الحيرة، ونشد وجه الهداية، فأصابها وقدرها قدرها.. وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فحدث}.
نعمة اللّه هنا، هو القرآن الكريم، وهو من أجلّ وأعظم ما أنعم اللّه به على النبي، وهو نعمة عامة شاملة، وإنه لمطلوب من النبي أن ينفق منها على الناس، وأن يسعهم جميعا فيها..
فهى نعمة سابغة، لا تنفد على الإنفاق. فليحدّث النبي الناس بها، وليكثر من هذا التحديث بها، والإنفاق منها: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى} (9: الأعلى)..
{فَذَكِّرْ بالقرآن مَنْ يَخافُ وَعِيدِ} (45: ق)..
{فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (21: الغاشية).. فهذا التحديث بالقرآن، هو التذكير به، وفى التذكير به هدى ورحمة للناس، حيث يجدون في آياته شفاء الصدور، وجلاء البصائر، وروح النفوس. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فآوى (6)}
استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد، أي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.
والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياساً على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويُسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم.
ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه.
والاستفهام تقريري، وفعل {يجدك} مضارع وجَد بمعنى ألفى وصادف، وهوالذي يتعدى إلى مفعول واحد ومفعوله ضمير المخاطب.
و{يتيماً} حال، وكذلك {ضالا} و{عائلا}.
والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع لِلذي تعسرت عليه بحالة من وجَد شخصاً في شدة يتطلع إلى من يعينه أو يغيثه.
واليتيم: الصبي الذي مات أبوه وقد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو جنين أو في أول المدة من ولادته.
والإيواء: مصدر أوَى إلى البيت، إذا رجع إليه، فالإيواء: الإِرجاع إلى المسكن، فهمزته الأولى همزة التعدية، أي جعله آوياً، وقد أطلق الإِيواء على الكفالة وكفاية الحاجة مجازاً أو استعارة، فالمعنى أنشأك على كمال الإِدراك والاستقامة وكنتَ على تربية كاملة مع أن شأن الأيتام أن ينشأوا على نقائص لأنهم لا يجدون من يُعنى بتهذيبهم وتعهدِ أحوالهم الخُلقية.
وفي الحديث: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيراً من تربية الأبوين.
والضّلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى مكان مقصود سواء سلك السائر طريقاً آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائراً لا يعرف أيَّ طريق يسلك، وهو المقصود هنا لأن المعنى: أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرَّهه إليك ولا تدري ماذا تتبع من الحق، فإن الله لما أنشأ رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان، ألْهَمَه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى.
وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإِشراك قبل النبوءة باتفاق علمائنا، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبَيْن الخلوّ عن وجود شريعة قبل النبوءة، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافياً في قبح الفواحش عَلَى إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل.
ولم يختلف أصحابنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلاً من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافَهَ القرآن به المشركين بقوله: {فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16] وقوله: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} [المؤمنون: 69]، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا.
والعائل: الذي لا مال له، والفقر يسمى عَيْلَة، قال تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللَّه من فضله إن شاء} [التوبة: 28] وقد أغناه الله غناءين: أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها.
وحذفت مفاعيل {فآوى}، {فهدى}، {فأغنى} للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها، وحدفُها إيجاز، وفيه رعاية على الفواصل.
{فَأَمَّا اليتيم فَلَا تقهر (9)}
الفاء الأولى فصيحة، و(أما) تفيد شرطاً مقدراً تقديره: مهما يكن من شيء، فكان مفادها مشعراً بشرط آخر مقدر هوالذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة، وتقدير نظم الكلام إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به فعليك بشكر ربك، وبيّن له الشكر بقوله: {أمّا اليتيم فلا تقهر} الخ.
وقد جُعل الشكر هنا مناسباً للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير: إذا أردتَ الشكر، لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس، وصُدر الكلام بـ: (أما) التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة.
ولما كانت (أمَّا) بمعنى: ومهما يكن شيء، قرن جوابها بالفاء.
واليتيم مفعول لفعل {فلا تقهر}.
وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعاً وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب (أما) أن يكون مفصولاً عن (أما) بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط.
ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين (أما) وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإِرادة الاهتمام بالمقدم لأن موقع (أما) لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماماً يرتكز في بعض أجزاء الكلام، فاجتلاب (أما) في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلِّقات الجملة، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه وكذلك القول في تقديم {السائل} وتقديم {بنعمة ربك} على فعليهما.
وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها.
فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب.
وذلك ما درج عليه الطيبي، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة {السائل} بالسائل عن الدين والهدى، فقوله: {فأما اليتيم فلا تقهر} مقابل لقوله: {ألم يجدك يتيماً فآوى} [الضحى: 6] لا محالة، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليُتم، فكن أنت مُكرماً للأيتام رفيقاً بهم، فجمع ذلك في النهي عن قهره، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] وقال: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً} [الإسراء: 28].
والقهر: الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا، وتكون هذه المعاني بالفِعل كالدَّعّ والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى: {وقولوا لهم قولاً معروفاً} [النساء: 5]، وتكون بالإِشارة مثل عُبوس الوجه، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامَل به غير اليتيم في مثل ذلك فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220].
وقوله: {وأما السائل فلا تنهر} مقابل قوله: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7] لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق، فالضال معتبر من نصف السائلين.
والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسؤول كما قال كعب:
وقال كُل خليل كنت آمله: ** لا أُلْهِيَنَّك أني عنك مشغول

فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين.
فلا يختص السائلُ بسائل العطاء بل يشمل كل سائل وأعظم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاد المسترشدين، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عيينة.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستَوْصوا بهم خيراً» قال هارون العبدي: كنا إذا أتيْنا أبا سعيد يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {السائل} تعريف الجنس فيعم كل سائل، أي عمّا يُسال النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله.
ويكون النشر على ترتيب اللف.
فإن فسر {السائل} بسائل معروف كان مقابل قوله: {ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى: 8] وكان من النشر المشوش، أي المخالف لترتيب اللف، وهو ما درج عليه (الكشاف).
والنهر: الزجر بالقول مثل أن يقول: إليك عني.
ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجاً وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإِسلام.
وقوله: {وأما بنعمة ربك فحدث} مقابل قوله: {ووجدك عائلا فأغنى} [الصحى: 8].
فإن الإغناء نعمة فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها.
وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموماً في المقام الخطابي، أي حدث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نِعمة الإِغناء، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلاً جامعاً.
فإن جعل قوله: {وأما السائل فلا تنهر} مقابل قوله: {ووجدك عائلا فأغنى} على طريقة اللف والنشر المشوش كان قوله: {وأما بنعمة ربك فحدث} مقابل قوله: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7] على طريقة اللف والنشر المشوش أيضاً.
وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق.
والتحديث: الإِخبار، أي أخْبِر بما أنعم الله عليك اعترافاً بفضله، وذلك من الشكر، والقول في تقديم المجرور وهو {بنعمة ربك} على متعلَّقه كالقول في تقديم {فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر}.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به، وأصل الأمر الوجوب، فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه ما أمر به، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدلّ دليل على الخصوصية، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة.
وأما مساواة الأمة له في الأمر بالتحدث بنعمة الله فإن نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شتّى منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر، ونعمة الرب في الآية مُجملة.
فنعم الله التي أنعم بها على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله وأن الله أوحى إليه وذلك داخل في تبليغ الرسالة وقد كان يُعلم الناسَ الإِسلام فيقول لمن يخاطبه أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له: «اعدل يا رسول الله فقال: أيأمنُني الله على وحيه ولا تأمنوني» ومنها ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة فهذا وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خالص من عُروض المعارض لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت.
وأما الأمة فقد يكون التحديث بالنعمة منهم محفوفاً برياء أو تفاخر.
وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها.
وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع، وطريقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما.
وفي (تفسير الفخر): سئل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الصحابة فأثنى عليهم فقالوا له: فحدثنا عن نفسك فقال: مهلاً فقد نهى الله عن التزكية، فقيل له: أليس الله تعالى يقول: {وأما بنعمة ربك فحدث} فقال: فإني أحدث كنتُ إذا سُئلتُ أعطيت.
وإذا سُكِت ابتديت، وبين الجوانح علم جَم فاسألوني.
فمن العلماء من خَص النعمة في قوله: {بنعمة ربك} بنعمة القرآن ونعمة النبوءة وقاله مجاهد.
ومن العلماء من رأى وجوب التحدث بالنعمة.
رواه الطبري عن أبي نضرة.
وقال القرطبي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولغيره.
قال عياض في (الشفاء): وهذا خاص له عام لأمته.
وعن عَمرو بن ميمون: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به يقول له رزق الله من الصلاة البارحةَ كذا وكذا، وعن عبد الله بن غالب: أنه كان إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحةَ كَذا، قرأتُ كذا، صليت كذا، ذكرت الله كذا، فقلنا له: يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا، قال: يقول الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة الله.
وذكر ابن العربي عن أيوب قال: دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال: لقد رزق الله البارحة: صليت كذا، وسبحت كذا، قال أيوب: فاحتملت ذلك لأبي رجاء.
وعن بعض السلف أن التحدث بالنعمة تكون للثقة من الإخوان ممن يثق به قال ابن العربي: إن التحدث بالعمل يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة فإنه ربما خرج إلى الرياء وإسَاءة الظن بصاحبه.
وذكر الفخر والقرطبي عن الحسن بن علي: إذا أصبتَ خيراً أوعملتَ خيراً فحدث به الثقة من إخوانك.
قال الفخر: إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به. اهـ.